كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قالوا: لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد، ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية، ولا معنى للعلم إلا العالمية، وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال، وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناسًا كثيرين وهو محال.
المقدمة الرابعة: أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم، وذلك يدل على أن النفس ليست جسمًا، وتقرير هذه المنافاة من وجوه.
الأول: أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالًا تامًا مثاله: أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه، نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية ألبتة يبعد قبولها شيئًا من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل، ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف ألبتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع، ولهذا السبب يزداد الإنسان فهمًا وإدراكًا كلما ازداد تخرجًا وارتباطًا في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم.
والثاني: أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن، أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها، وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه، وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سببًا لكماله ونقصانه معًا ولحياته وموته معًا، وأنه محال.
والثالث: أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفًا نحيفًا، فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية.
ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزنًا ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك.
الرابع: أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محرومًا عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك.
الخامس: أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل، أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئًا إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتًا إذا سد أذنيه.
كما لا يمكنه ألبتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالمًا به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية، فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم، وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الإعادة.
المسألة السادسة:
في إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية.
الحجة الأولى: قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فأنساهم أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] ومعلوم أن أحدًا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه.
الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ * ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13] إلى قوله: {فَكَسَوْنَا العظام لَحْمًا} [المؤمنون: 14] ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلًا من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولًا ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة.
الحجة الرابعة: قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [الحجر: 29] ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله: {مِن رُّوحِى} دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد.
الحجة الخامسة: قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقًا لأن الإلهام عبارة عن الإدراك، وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضًا بالإدراك والتحريك وموصوف أيضًا بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلابد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفًا بكل هذه الأمور.
الحجة السادسة: قوله تعالى: {إنا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فجعلناه سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربا نية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضوًا من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات.
واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد، والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب، والله أعلم.
المسألة السابعة:
في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسمًا منتقلًا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويًا للبدن في كونه متولدًا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحًا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال إنه: {مِنَ أَمَرِ رَبّي} بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي: خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر، وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 193، 194] واحتج المنكرون بوجوه.
الأول: لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال.
الثاني: قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أي شَىْء خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} [عبس: 17 22] وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة، وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة.
الثالث: قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله} [آل عمران: 169] إلى قوله: {يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ} [آل عمران: 170] وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام.
الجواب عن الأول: أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجودًا ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلًا للإله أو جزءًا للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلابد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما، فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال، والجواب عن الثاني: أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف، والجواب عن الثالث: أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين، أما المفسرون فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلًا» فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} [البقرة: 269] وساعة تقول هذا.
فنزل قوله: {وَلَوْ أَنَّمَّا في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} [لقمان: 27] إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلًا بالنسبة إلى شيء كثيرًا بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جدًا بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية.
{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)}.
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلًا بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضًا لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمرًا مخالفًا للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه.
المسألة الثانية:
احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديمًا بل يجب أن يكون محدثًا.
وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثًا وقوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال: {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن على أنه تعالى منَّ على جميع العلماء بنوعين من المنة.
أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليه.
الثاني: إبقاء حفظه عليه وقوله: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} فيه قولان: الأول: المراد أن فضله كان عليك كبيرًا بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك.
الثاني: المراد أن فضله كان عليك كبيرًا بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضًا بإبقاء العلم والقرآن عليك. اهـ.